المترجم اليوم.. ما الذي يمكن أن يقدمه لتعزيز الاقتصاد وجودة الحياة؟

المجلة العربية – عدد أكتوبر ٢٠٢٢

النقاش الذي يجري منذ سنوات عن إمكانية أن يستبدل الذكاء الاصطناعي الترجمة الآلية بالترجمة البشرية كلياً في المستقبل لم تتغير نتيجته، وهي استحالة ذلك على الأقل حتى اليوم، والسبب الرئيس هو عجز هذا الذكاء عن معرفة الفروق الدقيقة في قواعد اللغة ودلالاتها وتركيبها وتأثيرها الثقافي. هذه النتيجة أكدتها مجموعة من الدراسات الأكاديمية التي أجريت مؤخراً.
هذه النتيجة لا تلغي حقيقة الاعتماد المتزايد على الأتمتة في أنشطة الترجمة اليوم، ولكن مع ذلك، فإن جهود المهتمين بها تتركز في حساب درجة موثوقية المنتج النهائي للترجمة الآلية -التي تتأرجح نسبتها بين أنواع النصوص المختلفة- وقياس المقدار المطلوب لتدخل العنصر البشري فيها.
المغالاة في قدرة الآلة التوغل في نشاط الترجمة ليست جديدة، إذ (منذ التجارب الأولى للترجمة الآلية في السنوات 1950، ما فتئ الناس يتوقعون انتصار الآلة على الإنسان، ومع ذلك، لم يسبق أن شهد عدد المترجمين مثل هذا الارتفاع اليوم. ورغم ما بلغته أنظمة الترجمة عبر الإنترنت من إتقان وإتاحتها للجميع، فإنها لم تقض على المهنة، بل غيرتها). كما يؤكد جوس موركنز الأستاذ في كلية اللغات التطبيقية والدراسات الثقافية البينية بجامعة دبلن.
تشير الإحصائيات اليوم إلى وجود ما يزيد عن 600 ألف من العاملين المسجلين في قطاع الترجمة في جميع أنحاء العالم، وهذا الرقم في ارتفاع حتى مع الاعتماد المتزايد على الأتمتة في أنشطة الترجمة.
الترجمة نشاط إنساني تواصلي مطلوب دائماً، يزداد حجماً مع مرور الزمن وتطوراً مع تقدم التقنية. وترتبط الترجمة ارتباطاً وثيقاً بمجالات أخرى متنوعة مثل الثقافة والتعليم والاقتصاد والتقنية وغيرها. ومع دورها الأساس في التواصل الحضاري وتطوير الثقافة والأدب العالميين، فهي كذلك تسهم مثل غيرها من الأنشطة في الارتقاء بثقافة المجتمعات والدول وعلومها وتعزيز جودة حياتها وقوتها المعرفية.
واليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين فإن الترجمة تمثل ضرورة اتخذت أشكالاً جديدة حفزتها التقنية والسفر والتجارة والسياحة، وبدونها قد يكون من الصعب أو من المستحيل إنتاج وتداول المعرفة العالمية عبر المجتمعات والثقافات اللغوية المختلفة، أو أن تتكامل الأنظمة الاقتصادية والسياسية والثقافية العالمية. إجمالاً، لا يوجد تواصل عالمي ممكن دون ترجمة.
الترجمة أيضاً، تُضيف إليها في كل مرحلة حضارية أدواراً جديدة وتطوّرها باستمرار، أما المترجمون فهم المنفذون لكل هذه الأدوار. وهنا نتسأل: ما الذي يمكن أن يقدمه المترجم اليوم لتعزيز الاقتصاد وجودة الحياة على وجه الخصوص؟ وكيف يمكن تعزيز دوره؟
مع الدور الأبرز والشامل الذي يعرف به المترجمون تاريخياً وهو إسهامهم في التواصل الحضاري، ثمة أدوار محددة يضطلع بها المترجمون تساعد في تعزيز الاقتصاد وجودة حياة المجتمعات من خلال بناء مجتمع المعرفة، وفي التطوير اللغوي والعلمي وتوطين التقنية، وفي مجال التطوع وتقديم الخدمات الإنسانية، والإسهام في بث روح التسامح بين المجتمعات والشعوب.
من الناحية الاقتصادية، يُعرف نشاط الترجمة بأنه صناعة لها ممارسوها ومنتجاتها وأسواقها. يقع هذا النشاط ضمن خدمات صناعة اللغة، التي تشمل عموماً أنشطة الترجمة المتنوعة والتحرير والتدقيق اللغوي، وتعليم اللغات وتطوير أدوات الترجمة الإلكترونية، وتوطين اللغات والبرامج وغيرها. وفيما يخص صناعة الترجمة منفردة، التي تقودها شركات تعمل على نطاق عالمي ومؤسسات ومراكز وطنية بالإضافة إلى أنشطة فردية، فيُقدر حجم سوقها العالمي بنحو 40 مليار دولار بناءً على إحصائية عام 2021. وبطبيعة الحال لا يشمل هذا الرقم قيمة الأثر المضاف على المجتمع من الناحية الثقافية والعلمية. ويتوقع الخبراء أن يرتفع هذا الرقم سنوياً مع فرض العالم اليوم واقعاً متطوراً ومتسارعاً في التواصل، ومع زيادة الطلب على هذه الخدمات التي تمثل اللغة أساسها والترجمة وسيلتها والمترجم منفذها.
وللمترجم دور بارز اليوم أيضاً في بناء مجتمع المعرفة، وهو الدور الذي يتضمن نقل المعرفة وتوطينها واستخدامها في مختلف الحقول، إذ إن العلاقة بين الترجمة ومجتمع المعرفة اليوم علاقة قوية تؤكدها شواهد كثيرة فقد (أصبحت قوة الدول وقدراتها في التأثير على مجريات الأمور والتحكم في مصائرها ومستقبلها تقاس بالقوة المعرفية، كما أصبحت ظاهرة المعرفة تتحرك معنا في كل مجالات الحياة وفي ميادين المعلومات والإبداع والسياسة والتعليم والصناعة. وبذلك تحولت المعرفة إلى قوة في حد ذاتها). (كتاب هل المعرفة قوة؟، نُشر في تقرير اللغة العربية بوابة المعرفة، اليونسكو، 2019).
إسهام الترجمة في بناء مجتمع المعرفة ينطلق من حقيقة أن إنتاج المعارف المتنوعة واستيعابها ونقلها والإبداع فيها يكون أكثر فعالية وانتشاراً من خلال اللغة الأم، كما تؤكد الباحثة الدكتورة ثريا الشفطي بقولها: (لا سبيل إلى الوصول إلى مرحلة الإبداع إلا باستعمال اللغة الأم، ولنا في التجربة العربية القديمة خير مثال، فتَمَثَّل الأشياء وتصوّرها، ومن ثم الإبداع فيها لا يتم إلا باستعمال اللغة الأصلية).
وفيما يتعلق بدور المترجم في التطوير اللغوي والعلمي وتوطين التقنية، فقد قدمت دراسات متعددة نتائج أبحاثها عن دور الترجمة وأثر التعريب في تنمية اللغة العربية على سبيل المثال، يمكن تلخيص النتيجة في شقها الإيجابي بالقول إن الترجمة أَثْرَت اللغة العربية وزادت من رصيدها اللغوي بمفردات وعبارات ومصطلحات ومعان جديدة في العلوم والتقنية والعلوم الإنسانية، ومَكَّنَتها كذلك من استنباط طرق تراكيب مختصرة ومنطقية تناسب السرد في المجال العلمي والتقني على وجه الخصوص.
وفيما يتعلق بإسهام المترجم في بث روح التسامح والتعاطف بين الشعوب، فهذا الدور يُعد من أدواره الجديرة بالملاحظة تاريخياً، تزامن مع انتشار القراءة والتوسع في نشر الروايات منذ القرن الثامن عشر. إذ مع الترجمة وبمساندة المطبعة، أصبحت الروايات تنتقل بين المجتمعات والشعوب، ويعرف الكثير من الناس ويقرؤون حكايات عن أناس مثلهم يشاركونهم الأحلام والهموم نفسها. وهكذا زرعت الروايات المترجمة روحاً من التعاطف والتسامح في صدور الناس وعقولهم.
يعد الدور التطوعي للمترجم في تقديم الخدمات الإنسانية والتعليم ونشر المعرفة دوراً جليلاً يؤديه في الظل، والظل دائماً قرين المترجم. هذا العمل الذي تتكاتف من أجله جهود آلاف المترجمين اليوم ينطلق من ثلاثة مجالات رئيسة وهي: تقديم الخدمات الإنسانية مثل المساعدة الإغاثية والطبية للاجئين في مناطق الصراع والعالقين على الحدود، ومن أشهر المنظمات العاملة في هذا المجال منظمة (مترجمون بلا حدود) و(متطوعو الأمم المتحدة). وهناك المجال التعليمي، ولعل أوضح مثالين عنه هو عمل منصة (تاد توكس) و(أكاديمية خان)، ويمثل المجال الثالث جهود نشر المعرفة التي تتولاها مواقع ومنصات تقوم على مبادرات تطوعية مثل مشروع (ويكي دَون) في المملكة العربية السعودية ومنصات أخرى لنشر الترجمات مثل مجلة (حكمة) ومؤسسة (معنى) وغيرهما.
حين الاقتراب من مشهد الترجمة عربياً، نجد أن المترجم سواءً كان مترجماً متفرغاً أم غير متفرغ، يؤدي نفس هذه الأدوار التي تُسهم في الارتقاء بالثقافة وتعزيز الاقتصاد وجودة حياة المجتمع، ولكن بطبيعة الحال ثمة تحديات تواجهه.
في الغالب تتشابه التحديات التي تواجه المترجمين عالمياً، إلا أن بعض الباحثين العرب أشاروا إلى عدد من التحديات العامة التي تواجه واقع الترجمة العربي وقدموا توصيات حيالها، ومن أهمها التأكيد على ضرورة تعزيز الجهود التنظيمية والتنسيقية في مؤسسات ومراكز الترجمة وبين بعضها بعضاً، والأخذ بمنهج تدريب المترجمين وتعليمهم بالممارسة بدلاً من الاعتماد على التعليم النظري وذلك من أجل الحد من النقص الموجود في عدد الممارسين الخبراء، وتنظيم العلاقة بين المترجم والمؤلف والناشر، والاستفادة من التقنية في الترجمة وتطويرها.
كيف نعرف واقع الترجمة العربي اليوم بدقة؟ من الشائع أن نجد في الكتابات الصادرة عن الترجمة استشهادات بإحصائيات (عدد الترجمات في اللغة ومقارنتها بين الدول) يتكرر الإشارة إليها -غالباً لا تحمل مؤشراً جيداً- وتكون في أحيان كثيرة دون تحديث أو توضيح آليه حسابها أو تحديد مصدرها، ولذا، يصعب الاعتماد عليها في معرفة واقع الترجمة العربي اليوم بدقة. فمثلاً نرى في أحد المصادر العالمية (فهرس الترجمة التابع لليونسكو)، وهو برنامج عريق أنشئ في العام 1932، أن وجود اللغة العربية ليس بارزاً في قوائم البيانات. هذا الوجود قد يعكس الواقع الحقيقي وقد لا يمثله بدقة، طالما أننا لا نعرف مدى متابعة المراكز البيبليوغرافية العربية وتحديث معلوماتها في هذا الفهرس الدولي.
قد يكون الحل هنا في تعاون المؤسسات والمراكز المعنية بالترجمة والتنسيق فيما بينها، وزيادة توعية الجمهور وأصحاب القرار بأهمية الترجمة وفوائدها الملموسة، وتعزيز تدريب المترجمين وإطلاق الجوائز المعنوية والمادية لهم، الأمر الذي يضمن تعزيز مشهد الترجمة العربي ويدعم مسيرته، ولعل مبادرة (المرصد العربي للترجمة) التي أطلقتها العام الماضي هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة الثقافة السعودية مبادرة واحدة من ضمن حزمة مبادرات ممكنة لهذه الأدوار الجوهرية.