ترجمة نص | عِمَارة السعادة لـ«ألان دي بوتون».

440x298

بلغةٍ فلسفية وتحليل نفسيٍّ، طافَ ألان دي بوتون، الكاتب والروائي في كتاب (عِمارة السعادة) في رحلة لطيفة ومبهرة في محاولة لسبر أغوار العلاقة الوثيقة بين الهوية والمكان، حيث يرى في كتابه أنَّ من أهم عوامل السعادة أو الشقاء في حياتنا طبيعةَ البيئة المحيطة بنا: نوع الجدران، والمقاعد، والمباني، والشوارع، ومع ذلك فإنَّ الفن المعماريَّ كثيرًا ما كان يوصف بأنه فنٌّ غير ذي قيمة، ومجرد انغماس في الرفاهية. وانطلق ألان دي بوتون في هذا الكتاب من فكرة أننا نستجيب بقوة في المكان الذي يؤثر بنا، وأنَّ دور الفن المعماري يذكِّرنا بصورة بالغة بما تتمتع به البيئة المحيطة بنا من قدرات.

مغزى الفن المِعماري

باكرًا -في صباح هذا اليوم- تناهى إلى مسامعي من المنزل ذي الشرفة المطلة على الشارع المحفوف بالأشجار صياحُ الأطفال وأصوات البالغين، وما هي إلا لحظات قليلة من مغادرة ساكن المنزل الأخير (امرأة تحمل بيدها حقيبة) حتى عاد الصباح هادئًا ووحيدًا كما كان، وارتفعت الشمس فوق سطوح المباني المقابلة، تغسل بأشعتها نوافذ الدور الأرضي، وتصبغ الجدران باللون الأصفر المزبد، وتثير الدفء بين لبنات الواجهات الحمراء المحببة. وعندما انحرفت أشعة الشمس ثارت معها ذراتٌ من غبار دقيقة بحركة كانت وكأنها منقادة لرقصة الفالس الصامتة. من داخل الردهة يمكن أنْ تسمع ضجيجَ السيارات الخافت من بعيد، وبين الحين والآخر يُفتح صندوق الرسائل في الخارج محدثًا صريرًا، وكأنه يخبر عن وصول رسالة حزينة.

يعطينا المنزلُ دلائلَ عن متعة الفراغ، إنه يعيد ترتيب نفسَه بعد المساء، يغسل أنابيبه، وينشط مفاصله. هذا المخلوق الكبير المحنك ذو الأوردة النحاسية والأرجل الخشبية يأوي إلى سرير من طين، يتحمل أذًى كثيرًا: ارتداد الكرات في جوانب حديقته، والإغلاق العنيف لأبوابه، واللعب الصاخب على طول الردهات، ووزن وأزيز الأجهزة الكهربائية، ومسابر السباكة الرديئة في داخله. يحوي مستعمراتٍ من النمل حول قواعده، وفي فصل الربيع، تتكئ عليه نباتات الجُلبان الضعيفة (أو المتراخية) التي تميل إلى حائط الحديقة متوددة لأسراب النحل المتجولة.

نما المنزل كشاهد على دراية واسعة، وأصبح جزءًا من عوامل الجذب الأولية، وشاهدًا على الأحداث الحياتية الصغيرة؛ المواليد القادمين توًّا من المستشفى، كتابة الواجبات المنزلية، أصوات نقاش خافت في المطبخ تشق سكونَ منتصف الليل فجأة، النوافذ المتجمدة في ليالي الشتاء، وغبار الصيف عندما تحمل طوب الجدران الحرارة.

إنَّ المنزل لا يقدِّم ملاذًا ماديًّا فحسب، بل نفسيًّا أيضًا، إنه حامي الهوية. بعد مرور سنوات، يعود ملاكه بعد فترات طويلة من الانقطاع، وينظرون حولهم متذكرين كيف كانوا!

إنَّ تلك الأحجارَ المتلاصقة في الأرضيات تتحدث عن الصفاء ونعمة العمر، في حين إنَّ الانتظام في خزائن المطبخ المألوفة يقدم نموذجًا للسلوك اللطيف، حيث مائدة الطعام ذات المفارش الشمعية المرسوم عليها أزهار كبيرة ترمز إلى المرح المنتشر حتى الحائط الصلد القريب، وعلى طول الدرج رسوماتٌ صغيرة نابضة بالحياة من البيض والليمون تثير الاهتمام في تشابكها وجمالها كأشياء في حياتنا اليومية. في الحافة أسفل النافذة توجد قنينة زجاجية تحوي نباتاتٍ تساعد على مقاومة الاكتئاب، وفي الطابق الأعلى غرفة بمساحة خالية تساعد على ظهور الأفكار وتجددها. على الرغم من أنَّ هذا البيت قد يفتقر إلى حلول العديد من مشاكل سكانه، فإنَّ غرفه مع ذلك تعطي دليلًا على السعادة المميزة التي تقدمها العِمارة.

ومع ذلك الاهتمام بالعِمارة، لم يكن خاليًا من الخطورة والريبة، فالشكوك تنتاب هذا الموضوع بجدية، كثمن طبيعيٍّ لها. عدد من شحاذي الفكر الأذكياء في العالم يترفعون عن أيِّ اهتمام بالديكور والتصميم، بدلًا عن ذلك يساوونه مع المسائل المجردة وغير المرئية. قال الفيلسوف الرواقي في اليونان القديمة أبكتيتوس: يقال لصديق جريح احترق بيته لتريح قلبه «إذا كنت حقًا تفهم ما الذي يحكم الكون، كيف تشتاق إلى جزء صغير من الحصى والحجارة الصغيرة؟» (إنه لمن غير الواضح إلى متى ستستمر الصداقة!).

تحكي الأساطير أنَّ القديسة ألكسندرا باعت منزلها بعد سماعها صوتًا من السماء، وأغلقتْ على نفسها في قبر ولم تنظر إلى العالم الخارجي مرة أخرى، في حين أنَّ تابعها ناسك وادي النطرون (بول) نام في غطاء على الأرض بكوخ طينيٍّ بلا نوافذ يتلو في كل يوم ثلاث مئة ابتهال، ولكنه شعر بالأسى فقط عندما علم أن عابدًا آخر يتلو في كل يوم سبع مئة ابتهال وينام داخل تابوت.

رأي واحد حول “ترجمة نص | عِمَارة السعادة لـ«ألان دي بوتون».

أضف تعليق